هو اكثر من جيش من الشهود على حجم التحولات التي مرت بها ساحتنا العربية. بل هو ذاكرة مملوءة بأصداء المدن والناس، والأفكار التي تساقطت حتى قبل نضوجها. المبكر لذلك لا يمكن التعامل مع لوحة الفنان عبدالله الشيخ إلا من خلال التلبس بحالة من اليقظة الهائلة، والمراقبة الذكية، لأن لوحة هذا الفنان المخضبة حتى الآن بمناخاتها الأولى، حيث دراساته أواخر الخمسينات ببغداد وعيشه الطويل في البصرة والعراق – خلقت لديه نكهة “رافدية” خاصة دفعت بالفنان لان يلغي المكان النفسي الذي هو فضاء لا حدود له بما يمتلك من الإشارات والعناصر التي تتجاوز حتى ذاتها.
لوحة هذا الفنان بما فيها من متانة تأليفية ووعي تعبيري نادر يصعب أن تصدر عبر أسلوب القراءة الأفقية للعمل الفني ،بل لابد من الذهاب في صلب تركيبها وصولا إلى الأجوبة التأصيلية التي تكشف أمامنا أركان المربع الصعب الذي تتأسس عليه لوحة الشيخ ولكن وفقا للشروط الاتية :
أولا : بوصفها ضمن المنطق العقلاني النقدي لوحة تعبيرية، فإن الإيقاع الأساسي لها لا يتعامل مع التعبيرية كوسيلة لإيضاح المناخ العام للبلاغة التعبيرية ،بل نرى أن هذه التعبيرية تخضع أساسا لتطعيم رمزي بالغ الدلالة ينقل اللوحة برمتها من حيزها الجمالي البصري إلى حيزها التثقيفي الذهني. فهي لوحة تتجاوز العين لتنغرز في ما وراء الذاكرة الطرية .. أنها تتحول إلى أداة للحفر أو إذا شئنا إلى سكين قسرية ( تكشط ) غلاف الذاكرة اليومي لتوقظ (البواطن) المملوءة بالمصادفات الحياتية الصعبة والمواقف المستحيلة بل الانتماءات التي كانت أوسع من دائرة الحلم .
ثانيا : مثل هذه اللوحة، ليست نصاً بصرياً يوازي النص الثقافي .. رغم أن موضوعها الثقافي سيبقى جاهزاً كعنوان أساسي من عناوين جهوزية العمل، لكنه ليس كشرط من شروط وجوده هنا يتحرك هذا الفنان بكل هذه المقدرة الفذة على هذا الحد الدقيق الذي يفصل ما بين النصين الذهني والبصري .. حتى ندرك ونحن ندهش بالتأليف العام لمسطح اللوحة كيف يستطيع رسام يعيش زمانه التشكيلي بكل الامتلاء المطلوب أن يؤسس مستويات متصادمة أحيانا ،ومقسمة تقسيما قسرياً بعض الأحيان على مسطح واحد ،يدفع بالمشاهد أن يتفاعل تلقائياً مع أصغر المساحات وأكبرها وصولا إلى نقطة التأليف القصوى حيث تتآلف كل هذه المساحات مكونة جملة تشكيلية واحدة.
ثالثا : هذه اللوحة أيضا لا تقوم على قاعدة التواطؤ الهارموني للتلوين ولاعلى قاعدة الغنائية السلسلة لمستويات اللون، بل على أساس استخلاص الشراسة التاليفية لهذا الجلد الزماني الخشن الذي هو مسطح اللوحة .. انها لا تتقدم باتجاه الملتقى مفعمة بالمعطيات الديكورية ( التجميلية ) الهادئة ،بل تجئ مثل الصرخة او مثل المفاجأة او مثل وجه الأرض العربية مجرحة بكل المداخلات والتكوينات التي تستفز وتستنفر الذاكرة.
اللوحة هنا أشبه بالجدار الذي يتعامل معه الزمن بكل عوامله، لذلك يخضعها الفنان للمداخلات كافة من كولاجية إلى الاستعمال الناجح (للمودلاج) اللوني السميك.
رابعا : لم يغب الإنسان عن أغلب أعمال عبد الله الشيخ لكن هذا الشاهد الهادئ الذي يستحضره في زاوية خطرة من زوايا مسطحه التصويري ، سوف يطل كشاهد أحيانا وكـ(دّيان) في بعض الأحيان.
انه يجئ مشدودا بكل ضمادات الصمت العربية، مقمطا بقدرة الذي حكم عليه بان يكون الضحية الدائمة. يرسم عبد الله الشيخ رأسا أو جثة أو وجها بلا ملامح .. لكنه لو جاء كصورة عن عالمنا المعاصر لوجدناه تأليفا لجندي يمتد عمره القتالي من نابليون بونابرت حتى قوات درع الجزيرة مرورا بقوات البانزرت الألمانية ذات الوجوه الفولاذية ، الإنسان الذي يرفع كفاً ويصرح بعض الأحيان سوف يحول اللوحة برمتها إلى صدى لكنه لو رسم بوضوح فوتواغرفي فان الفنان يكون قد أعلن بما يشبه الروح ( البوسترية ) عن غاياته الأساسية من العمل . إن أركان المربع الأربعة هذه، والتي تشكل بعضا من خصائص لوحة عبدالله الشيخ سوف ترصدها في أوج حالات تحولها عندما يبدأ هذا الفنان بذاكرته الفذة بحثه الرومانسي عن ضمائر المدن التي عشقها وعايشها ذات يوم وربما البصرة في مقدمها.
هنا سنشاهد تقسيما هندسيا أخر لمسطح العمل. اذ أن كل هذه الأقمار والأهلة والقباب الشرقية والأقواس والزوارق والنخيل المرسوم بطبشور طفل مشاغب إضافة إلى الألوان الاصطلاحية الخلابة ستشكل جميعها احتفالية هذا الفنان بتداعياته.
اللوحة هنا هي جزء من “الليتورجيا” والتي هي الاقانيم البيزنطية المتوارثة لدى العديد من رواد مدرسة بغداد للفن الحديث .. لذلك يعترف الفنان ضمنا بأنه لم يخترع لوحة ذاكرة المدن بل ان المدن التي رسمها هي التي فرضت هذا التأليف بل هي التي اخترعت التكوين في النهاية.
فهل هناك من انطباعية رومانسية اكثر من هذا الولاء الشفاف للمدن الشرقية الأصيلة ؟، لكننا نتحدث عن فنان مفتون باختلاسات النظر لذلك تعالوا ننتبه جيدا .. ولمرة ليست وحيدة .. لما وراء نوافذ مدينته حيث الفسحة الضوئية التي تشبه الغرف المضاءة ليلة العرس بأنوار حمراء .. هناك يمكن ان نشاهد ( رائحة ) البشر أيضا.
شخصيا لا أستطيع أن أرى نخلة أو بيتا من دون أن يدفعني التأليف الغنائي إلى البحث عن إنسان ما .. وربما لا أجده لكنه سيكون موجودا في نقطة التقاء الذاكرة بالذاكرة أو في لحظة ارتطام وعي المشاهد بمسطح الصورة.
وربما لهذا السبب وحده سنرى في تجريدات عبد الله الشيخ بحثا عن الصيغة الإنسانية الأمثل للعالم الذي يجب أن يكون اكثر قابلية للمكاشفة او حتى للمقاتلة من اجل ان يصير جزء لا يتجزأ من المصير .
ان عبد الله الشيخ هو الخصوصية في تيارات الفن السعودي المعاصر حيث تشعر عبر أعماله بقوة التأسيس الأولى للفنان عندما يصير جزءا من قدر او مصير معلميه، كما تشعر بالمعلم الذي يبقى رغم الموت الذي يطويه ضميراً متأججاً في أعصاب التلميذ.
وعبدالله الشيخ كان من تلامذة معهد فنون ببغداد حيث عايش خلال حقبة أواخر الخمسينات نتاجات فائق حسن ، جواد سليم ، إسماعيل الشيخلي ، حافظ الدروبي ، محمود صبري ، شاكر حسن ال سعيد وغيرهم ، أنها متانة الفنان الذي تأسس بلا زغل وثابر حتى اختمرت تجربته التشكيلية حينما قرر ان يصير حضوره هو زمانه الفني بكل معطياته ..
عمران القيسي
فضاء الذاكرة العربية ( 19 / 6 / 1999 )