عندما تصوَّب البندقية صوب جبهتك وأنت تختلس النظر لإحدى اللوحات، وتجد في المقابل تماماً عيناً مزّقت اللوحة وراحت تختلس النظر إليك، تبحث حينها في يدك عن بندقيةٍ موجهة للآخر ربما وجدت بيدك دون أن تنتبه! وتبحث حولك عن الفنان الذي استطاع تشتيت وعيك.
إن سكنتك الفوضى وأنت تتأمل معرضاً ما، فحينها سيكون الفنان ممسوساً بأحوال العالم ومشغولاً بقضايا الإنسان فيه. إن سرحت بخيالك نحو عالمٍ مثالي، فالحلم هو من أمسك الريشة ورسم. كل ذلك يحدث وأنت تشاهد أعمال الفنان السعودي ـ عراقي الأصل ـ عبد الله الشيخ.
لوحات الفنان الشيخ تندرج بشكل عام تحت عنوانين أساسيين يشكلان محورين لمواضيع الأعمال؛ بعيداً عن المراحل التي مرت بها أعماله والتي بدأت بالرسم الواقعي إلى حدٍ ما، بعدها كان الاتجاه نحو التبسيط أكثر وقد ظهر ذلك من خلال رسمه القباب والأقواس، ليجنح أخيراً نحو نوع من التجريد مع مزاوجة ما بين الأشكال الواقعية والسريالية، ومن ثم بدأ بإدخال الأحرف والكتابات.
وهذا التوزيع كان تماماً كما فعل الشيخ في معرضه التاسع في الرياض، حيث وزّع اللوحات السبعين على مجموعتين، «من هذا العصر» والأخرى بعنوان «حلم». الأعمال التي تنتمي للمحور الأول (كما اعتبرناها) تجسّد ما آلت إليه البشرية من حروب، موت، دمار، أسلحة وصفقات… فتراه يملأ اللوحة بالإشارات والرموز البصرية المحمّلة بالدلالات، ويترك لنا المجال لأن نسرح في تفسير اللوحة وتحميلها كلّ ما يصل إلينا من تأويلات للرموز الموجودة.
فتلك لوحة تمثل جندياً بخوذته ولباسه الكامل لكنه أشبه بمعمل صغير لإنتاج الموت، حيث أن تفاصيل البزة العسكرية والخوذة والوجه عبارة عن مسننات لآلات ضخمة مع قطع حديدية مليئة بالبراغي والمسامير، وكأنّ هذا الجندي فقد كل ما هو إنساني وأصبحاً مسيّراً كآلة.
في عملٍ آخر نجد البندقية الزرقاء مصوّبة نحو المتفرج برسم منظوري يصوّرها وكأنها خارجة من اللوحة، وتحتها في مربع من المربعات الستة الموجودة ضمن إطار اللوحة مرميٌّ كلّ ما يتعلق بالفنون من نوتات موسيقيّة وتماثيل وآثار، في إشارةٍ واضحة إلى طغيان صوت السلاح على صوت الحياة، فالفن عبثاً يحاول أن يغطي ببياض مربعه الدماء المحيطة به في المربعات الحمراء والبرتقالية المحمرة.
في بعض الأعمال لجأ الفنان الشيخ إلى استخدام تقنية الكولاج لبعض النصوص، بالإضافة إلى لصق قطع ثلاثية الأبعاد من حلقات نحاسية تظهر كفوهات البنادق والمسدسات، أو كرات معدنية تبدو كطلقات مجمّدة تتجاور مع بعضها لتشكل مع عدد من الأسلاك المعدنية أشكالاً تشبه أفواها لسمك مفترس.
الدبابات والسفن الحربية موجودة أيضاً، ففي وسط المحيط يظهر حطام سفينة حربية في منتصفها ضوء يحمل بشرى بغدٍ أفضل؛ إشارة القنص حاضرة في بعض الأعمال، بالإضافة إلى مثلثٍ يشير للأعلى، وكأنه يدل على الطريق وتحته مباشرةً رقم 2100. وقد رأى الناقد عصام عبدالله العسيري أنه عبارة عن نبوءة لشيءٍ ما سيحدث بعد 80 عاماً. وكذلك نجد قصاصة ورقية تحمل عبارة «جلسة مجلس الأمن اليوم»، وهي إشارة نصية توصل دلالتها وفق مرجعية واضحة لما يشير إليه مجلس الأمن، وسط هذا العمل يطفو مربع أبيض يحمل أقداماً لرجلين ببزتين رسميتين وحذائين لمّاعين يحملان حقيبتيهما ويتجهان نحونا رامين ظليهما إلى يسار اللوحة، وكأن هذه المجلس أصبح تحت أقدام رجال الأعمال وأصحاب الاستثمارات الكبرى، أي أنه تحت سلطة المال التي غطت على سطوته في الواقع وفي اللوحة أيضاً.
الألوان في هذه المجموعة، التي افترضنا انتماء مواضيع العصر والإنسان إليها، قاتمة باردة تستدعي الكآبة والإحباط نوعاً ما، كذلك نجدها كثيفة وكتيمة مليئة بالرهبة، تخدم الهدف الذي وظفت لأجله بأمانة، فتحمل لنا الموت بثقله، ببرودة الجثث الظاهرة مع الأزرق المائل للسواد، مع اللون الأحمر الذي يختصر الموت بمساحات من الدم.
أما اللوحات التي تُدرج تحت مسمى المحور الثاني «حلم»، فتحمل عوالم مختلفة تماماً، ونرى الألوان مشرقة ومتنوعة، أخضر، وردي، أبيض، برتقالي وأصفر والتي تعطي من الأمل ما يكفي لتعويض الإحباط المتكدّس من حقيقة لوحات «من هذا العصر».
نجد في معظم هذه الأعمال ما يشير إلى البيئة التي يسكنها الشيخ، فالمساحة الرملية تشي بذلك، ومثلها النخل الذي يعتبر رمزاً للخير والكرم لما يمنحه من ثمار وهو أيقونة أيضاً ترمز لهوية البلاد الصحراوية بالإضافة إلى شكله الجمالي. وقد احتل النخل القسم العلوي من الأعمال، والذي يعتبر مركز اللوحة وخصوصاً الجزء الأيسر منه؛ تظهر السماء في بعض اللوحات وقد رمت الشمس قبيل الغروب ألوانها على سطحها وصنعت منها أدراجاً مزركشة يصعد عليها الدخان الخارج من البيوت بتؤدة.
في عملٍ آخر نرى الشمس تتوسط السماء والنسوة يحملن صحون قش على رؤوسهن كأنهنّ يعبئن الضوء، الشمس أحياناً تكون برتقالية وأحياناً أخرى تظهر وردية مائلة للبياض لتحمل ما يمثله الأبيض من سلامٍ وأمان. النوافذ كثيرة في البيوت التي رُسمت واجهاتها التراثية بعناية واهتمام بالتفاصيل، كثرتها كناية عن الانفتاح نحو الآخر، كذلك نجد أن الحمام الأبيض يتسلل إلى عددٍ من هذه اللوحات، يعتلي أسطح الأبنية وشبابيكها حاملاً ما علق به من رمزية السلام والمحبة، إحدى الحمامات انحنت في أحد الأعمال كذراعٍ ومدت ذيلها ككفٍ بأربعة أصابع، كفٌ مفتوحة تنتظر من يصافحها. القطط السوداء أيضاً موجودة بعينين براقتين، وكأنهما نوافذ مكملة لسطور النوافذ المصطفة بجوارها. أشكال اللوحات عند الشيخ مميزة فهي ليست مربعة أو مستطيلة دوماً، فأحياناً تكون دائرية (تتوسطها أحياناً إشارة الجمع +، وخطان متصالبان) والتي توحي بأنها هدفٌ لسهم أو لمسدس الرماية. وتتخذ أحياناً أخرى أشكالاً عشوائية غير منتظمة الأطوال أو الزوايا، توحي بعدم الاستقرار.
أعمال الفنان متجددة، عمودها الفقري هو التجريب، ينتقل فيها الشيخ من مدرسة لأخرى ومن أسلوب لآخر، غير عابئٍ بالتصنيفات وبمن يقول بضرورة الالتزام بمسار معيّن، فيقول عن ذلك: «ما يهمني هو أن تصل فكرة لوحتي إلى المشاهد بالطريقة التي يراها مناسبة، ولا أرسم لوحتي وفق خطة معينة، بل تمرّ اللوحة بمراحل مختلفة أحياناً لا تكون متوقعة مني. فأثناء الرسم تنسى نفسك ويتلاشى المحيط، ويصير عالمك هو قماشة اللوحة وألوانها، ورويداً رويداً يأخذك هذا العالم إلى أماكن ومساحات مختلفة قد لا تكون منتبهاً لها، رغم أنك في النهاية حامل الريشة وصانع الألوان، ولكن الفكرة تمدد نفسها بنفسها، وتتشكل بقوتها الخاصة».
ويضيف: «أتصوّر أن كل خطوة أثناء رسم اللوحة هي تجربة جديدة بحد ذاتها، وهذه التجربة قد تتحوّل إلى مشكلة، أو لنقل أحجية أثناء الرسم. فيبدأ الرسّام بالعمل على حل المشكلة أو حلّ الأحجية، وحين يصل إلى وضع الحلّ، فإنه يشعر بلذة كبيرة، هي اللذة التي يجدها كل فنان حين يقتنع بأن عمله الذي يقوم به قد أشرف على الانتهاء، وهذا ينطبق على كل أنواع الفنون والفنانين».وفقا لما نشر بصحيفة القدس العربي .
بسمة شيخو (صحيفة فنون الخليج)