يُعد الفنان عبدالله الشيخ من أبرز فناني المنطقة الشرقية والمملكة، كما يعد من أوائل الجيل الثاني من فناني المملكة. نشأ وترعرع بالزبير عام 1936م، ودرس الفنون الجميلة ببغداد 1959 وأنهى دراسته عام 1965، ثم رحل لإنجلترا ليتخصص في المطابع. أقام أول معرض له في 1982 وحتى الآن أقام اثني عشر معرضاً شخصياً كان آخرها في أكتوبر 2013، شارك في أكثر من ستين معرضاً جماعياً. وهو الأخ الشقيق للفنان عبدالجبار اليحيى، حيث تتشابه نشأتهما الفنية والثقافية وحماسهما في العمل وحبهما للفن وعصاميتهما في بناء اسميهما في تاريخ الفن سواء على المستوى المحلي أو الخليجي أو العربي.
بدراسة تجربة عبدالله الشيخ التشكيلية سيميائياً في أهم تجربتين حديثتين كانتا ضمن معرضه التاسع بالرياض قاعة الأمير فيصل بن فهد، وضم المعرض ما يقارب سبعين عملاً قسّمها على مجموعتين «من هذا العصر» و «حُلُم» التي تُلخّص تجربته الفنية الطويلة والثرية. احتلت الحياة حيّزاً مهماً في أعمال الشيخ، وطرح رؤيته للوضع الراهن ومدى تعاسة الظروف التي يعيشها الانسان المعاصر من حروب وقتل وتدمير للبشر والبيئة والثقافة وكل شيء جميل في الحياة؛ فقد اصطدم بعد فترة من حياته الرومانسية وشغفه في الستينات بالموسيقى الكلاسيكية بوجود واقع مرير، يرى فيه البشر يُعذّبون ويُقتّلون وتدمّر المدن والمساكن ويُهجّر السكان بالملايين؛ ليتركوا كل أملاكهم وتراثهم متجهين نحو المجهول. وعليه، فقد سخّر الشيخ نفسه وفنه لخدمة قضايا الإنسان المعاصر وهمومه وآلامه، ويطرح تلك القضايا بإبداع بصري في المحافل الثقافية ومنها المعارض الفنية داخل المملكة والبيناليات خارجها.
في اللوحة الخامسة من المعرض التاسع داخل مجموعة من هذا العصر يستخدم الشيخ الإشارات البصرية المحمّلة بالرموز والدلالات المعبرة والمعاني العميقة ليصف الصراع الإنساني القائم حالياً، من بداية القرن العشرين والعالم بحكوماته وجيوشه يتصارعون إما للطمع وهوس التوسّع والسيطرة وإما للسيادة والدفاع عن الذات، بكل أسف وعبث صنّع الإنسان آلات الحرب والدمار من متفجرات وأسلحة كيماوية وذرية ونووية وجرثومية التي نتج عنها في الحربين الأولى والثانية أكثر من ستين مليون قتيل غير المعاقين والأرامل والأيتام والمصابين جسديا ونفسيا من هول الأحداث ومنظر الحروب، ولم تنطفئ نيران الحرب بعد بل استمرت في كل قارات العالم.
يستخدم عبدالله الشيخ الألوان بطريقة تجريدية تعبيرية رمزية للغاية في هذا العمل تحديداً، نرى الألوان العميقة التي توحي بالكآبة والجهل والخراب وفقد الأمل، ويذهب بها بعيداً حتى يصل بالمتلقي للون الأزرق السائد في جميع أطراف اللوحة، والزُرقة في العمل هي لون الوجل وشدة الهول والخوف والرهبة والحزن، كما أنه يوحي بالموت الذي نلاحظه غالباً على الجُثث فعلياً. ولكن الفنان لم يقف عند هذه النظرة السوداوية في قراءة وتحليل الوضع الراهن الذي تمر به الإنسانية، فقد أضاف لون الأصفر بكميات قليلة، وزاده أكثر في بعض الحقول البرتقالية ثم خلط به الأزرق السائد لينتج عنه اللون التركوازي، فاللون الأصفر هو لون الغد والمستقبل والإشراق الذي يأمل أن يشع في العالم بدل ظلام الظُلم.
استخدم الشيخ أشكالاً محدودة أولها الخط الخارجي أوOut lineبمقاس 121×121 سم، يشعر المتلقي حياله بالغرابة ويلفت الانتباه ويجذب الأنظار؛ لأنه مختلف عن السائد في المعارض المحلية التي اعتاد زوارها رؤية اللوحات التشكيلية بأشكال هندسية منتظمة سواء المستطيلة أفقياً أو عمودياًLand scape or Portrait وأحيانا المربعة، لكنه هنا قدّم للمتلقين شكلاً غير منتظم الأطراف والزوايا؛ ليخدم به الفكرة ويعطي دلالة بعدم الاستقرار وشيء من الفوضى، والأشكال الأخرى داخل العمل هي دائرتان خطوطهما متقطعة المحيط يتوسطهما في المركز خطان متعامدان على شكل علامة + وهي المعروفة لدى المتلقي ومرتبطة بالأسلحة لإصابة الهدف مثل البنادق وآليات القتل والتدمير الحديثة من الدبابات والطائرات والسفن ذات الطابع الهجومي وليست الدفاعية، وتلك إشارة القنص وضعها في قلب الصورة ليعطي الدلالة للمشاهد بأن الهدف هو الضرب في المقتل «القلب». ويجاور إشارة القنص مثلث يؤشر من الأسفل للأعلى ليكمل هذه الدلالة ويوحي باتجاه بصري للتقدم للأمام وتحته مباشرة رقم 2100 وكأنه يقصد به معنى باطنياً لشيء ما سيحدث بعد ثمانين عاماً. نجد أيضاً أن الفنان استخدم خامة أخرى غير الألوان الأكريلك، وهي قطعتا نحاس دائريتان تُذكّر المشاهد برأس الرصاص المستخدم في المسدسات ليقدّم منظومة متناسقة ومنسجمة تتناغم فيها كل العناصر لخدمة المغزى من العمل ورسالة الفنان، وتساندها الملامس الخشنة والتضاريس المتنوعة في مركز اللوحة البصري في الثلث الأعلى من اللوحة.
يغلب على العمل كله التكوين المفتوح ليطلق المتلقي خياله في التفكير أينما وضع نظره واتجه به لأي جهة ليتساءل ماذا بعد؟
أما العمل الآخر الذي أود تحليله سيميائياً فهو من تجربة كانت داخل ذات المعرض في نفس المكان والزمان لكن تحت مسمى «مجموعة الحُلُم»، وفيها يقدّم للجمهور أحلامه وآماله للصورة التي يود أن يراها في العالم والإنسان، حيث رسم في معظم أعمال هذه المجموعة شكل سفينة تسبح في بحر الأمنيات. وينقل الشيخ الجمهور لموضوع آخر عكس المجموعة السابقة تتسم أغلبها بالحلم وبتنوع الألوان وزهائها والتنوع الشكلي مستخدما رموزا وعلامات بصرية توحي بالتفاؤل والاستقرار وتمنح الاحساس والمتعة بالجمال بعد العناء، فجمع حزم الضوء المشرق ونثرها جمالاً ومتعة بمهارة وإبداع في عيون الجماهير. ينسجم الإطار الخارجي في لوحة رقم 27 من مجموعة حُلُم مع كامل أعمال المعرض في وحدة فنية وجمالية، حيث يجمع غالب الأعمال الأطر الغريبة وغير المعتادة وجميعها استعمل فيها الألوان الأكريليك مع المعاجين وخامات مختلفة على الخشب ليكشف مفاتن كل خامة ومادة تصادفها يده ويفجّر قواها في التشكيل.
نجد أن الفنان بنى عمله الفني على أساس التكوين المغلق، حيث جمّع كل عناصره داخل الكادر مستدعياً تلك المفردات التشكيلية من تراثه وبيئته المحلية ورموزها المختلفة وألوانها المبهجة، فالنخلات الثلاث اللائي احتللن أهم مركز في اللوحة تعطي دلالات بطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه الفنان وطبيعته الشخصية، فهي رمز للعطاء والكرم والتي تثمر التمور بمختلف أنواعها ويستخدمها المجتمع للغذاء والظل والجمال ويستفيد من مكوناتها في الحياة اليومية من منتجات الخصف وظيفياً واقتصادياً، كما رسم واجهات البيوت وعناصرها مثل الشبابيك والأبواب بجمالياتها الشعبية في التراث المحلي لتوحي بمعاني السكن والاستقرار والتهوية والضوء والحياة، ويعلو اللوحة منظر السماء والفضاء المشمس والبرّاق للدلالة على الحيوية، يحمل تلك العناصر الشكلية بما تتضمنه من دلالات ومعان سفينة أحلامه في قاع العمل لتسبح في عوالم عاطفته الجيّاشة وحبه للحياة وأمنياته للإنسانية أن تعيش في أزهى عصورها وتستفيد من تاريخها وحضارتها وتراثها في الحاضر لبناء مستقبل مشرق لهذا الجيل والجيل القادم كسفينة نوح عليه السلام التي أنقذت البشرية من الظُلم وعبرت بهم للسلام. يغلب على تصميم اللوحة البناء القوي والمتماسك لكل المفردات سواء في الأشكال أو الألوان وتوزيعها في الحقول المرئية، فقد استلهم من بيئة المنطقة الشرقية زُرقة البحر وخُضرة البساتين والمزارع وصُفرة الشمس وصفاء السماء فيجمع كل تلك الأطياف اللونية وينثرها من جديد بخبرة فنية ومهارة تقنية مستخدمها كوسائل لإيصال رسالته البصرية ورؤيته الفنية ومناشدته لتحقيق آمال الإنسان في عصره الحالي.
إجمالاً، تتسم أعمال عبدالله الشيخ الفنية بتجربة ثرية ورؤية عميقة ومهارة عالية وعاطفة جياشة وحس مرهف وطرح القضايا الإنسانية ليخدم أخيه الإنسان داخل تكوينات متزنة ورصينة وقدرات لونية فائقة، مستلهماً من بيئته وتراثه وأحداث العصر وعاطفته الأفكار، ويطرح رؤاه الفنية بشكل متميّز عن أقرانه.
عبدالله العسيري (جريدة اليوم، يونيو 7، 2014)